
نصيب غزّة من مقاصد الشريعة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
هناك زخم معرفي في المكتوب والمسموع والمرئيّ، مما جادت به قرائح علماء مسلمين أفذاذ في مواضيع شتى، بعضها يتعلّق بمقاصد الشريعة. لطالما تعلّمنا من بعضهم تفريعات تبهر العقول بكشفها دقّة التشريع الإسلامي وجماله، ولا زالت البحوث تتواصل فيها مما ييسّره الله.
تساؤل مشروع
للمسلم أن يتساءل عن جدوى بسط تلك العلوم، وهو يسمع ويرى بعض ما يتعرّض له إخوانه في غزة العزّة مما تقشعرّ له الأبدان، وتشيب له الولدان، من قتل وتجويع، وسدٍّ لمنافذ مدّ العون بيد من نار، وأخرى من حديد، لصهاينة جبناء يستأسدون على الأسود لاعتمادهم على قوى الغرب ممّن ملأ الدنيا كذبًا بالحديث عن "حقوق الإنسان"، وهو منها خِلو، حاشا الفضلاء منهم! وتحت خذلان أهل الشرق والغرب من مسلمين وغيرهم، عدا الشرفاء منهم!
معاذ الله أن نستخفّ بعلمٍ أصيل من علوم الشريعة، ولكن في خضمّ هذه الأحداث، لنا أن نتساءل عن سكوت من له باع في هذه العلوم عن الجهر بالحق في وجه ولاة أمور المسلمين لتذكيرهم بواجبهم الشرعي في هذا الوقت العصيب، فهل يُشرع لأمثالهم الاكتفاء بإنكار هذا المنكر العظيم بالقلب دون اللسان، وهم طالما حدّثونا عن تكريم الشرع للإنسان؟
لسنا نقصد الحديث عن الأعيان من أهل العلم، وليس لنا الحق في التّطاول على أحدهم، إذ منهم نتعلّم، ولهم نحفظ كامل الودّ. غير أن من حقّنا أن نتساءل ونتواصى بالحق، وبصبر بعضنا على البعض، لأنه ليس أحد فوق النقد، وقد جعل رسولنا ﷺ ديننا نصيحة فيما صحّ عنه لاعتماده على الإخلاص والصفاء والتصافي، حتى جعل من شُعبه: "النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم."
أسمع جعجعةً ولا أرى طِحنًا
في سياق الحديث عن مقاصد الشريعة الغرّاء، نتحدث عن المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية، التي أراد الشارع الحكيم حفظها للإنسان ليسعد ولا يشقى.
نكتفي في سياق الهول الفظيع، هول غزة، بالحديث عن المقاصد الضرورية المعبّر عنها بالكليّات الخمس التي طالما فصّل فيها العلماء القول.
وغزّة؟ أين موقعها وحظّها من أصول هذه المقاصد وفروعها؟ أم هي نشاز مزعج إذا ما ذُكرت في الخطاب الديني الجميل صار مُخيفًا؟ لطالما أنست الخطابات بجمالها جلالَ الوقائع وأهوالها، والحقيقة أن المعوّل عليه عند الله منها منافعها والعمل بمقتضاها، لا صورتها وحسن سبك عباراتها.
لم يشفع لغزة وأهلها شيء لأن تُحفَظ لهم كلية من الكليات الخمس، لا أخوة في الإنسانية، ولا في العروبة، ولا في الإسلام! فهل بقي لأهل العلم من الساكتين عن نصرتها بقيّة رغبة في الحديث عن مقاصد الشريعة التي جاءت لتكريم الإنسان؟ وأيّ إنسان؟ أم أن ابن غزة ليس بإنسان؟ يا للذل، ويا للهوان، ويا للفضيحة يوم الوقوف بين يدي الواحد الديّان!
يُراد لدينهم المحو، لأنه أصل ثباتهم. لا يتحمَّل الأعداء رؤيتهم ساجدين لله، فهدموا عليهم المساجد التي أُقيمت لذكر الله. وقد صدق مؤمن آل فرعون إذ قال:
﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ (غافر: 28)،
فهو أعلم ببواعث طغيان كل فرعون على أهل الحق، بشهادة القرآن.
وأنّى لهم أن تُحفَظ نفوسهم وهم يُقتّلون ويُجوّعون على مرأى العالمين، ولا من مغيث!
وكيف لهم أن تُحفَظ عقولهم وأرواحهم تُزهق تباعًا، والباقون منهم يذوقون مراحل الموت قبل اللّحاق بإخوانهم؟ فكيف لا يطير لُبّ من هذا حاله ويتمتّع بكامل عقله؟ يا للهول!
وكيف لأموالهم أن تُحفَظ، وقد سُرقت وجُمّدت وسُدّت عليها منافذ الاستثمار والانتفاع، فصارت في حكم العدم لما لم يعد لها فضل شراء ما يسدّ به الرمق؟
أما حفظ نسلهم، فصار في عداد المنسيّ، ما داموا يُبادون صباح مساء، وأهل العلم يكتفون بالحوقلة والحسبلة والإنكار القلبي، دون النهوض في وجوه ولاة المسلمين.
هذا تذكير ببعض حقوقهم الضرورية كـ"آدميين"، فأين الشدّ عليها من أهل العلم من إخوانهم المسلمين؟
أهل غزة تعلّقوا بالله وتركوا لغيرهم التحدّث في شرعه
إن كان لا يُؤبَه بغزة في خطاب مقاصد الشريعة، فإنّ غزّة لها صاحب الشريعة، لها الله سبحانه، وهو راعيها وناصرها رغم كيد الكافرين الغاصبين، ورغم تواطؤ المنافقين الخائنين، ورغم تقاعس الجبناء المتخاذلين...
أما دينها، فقد حافظ عليه أهلها بتعلّقهم بالله وتوكّلهم عليه وحده، والخضوع له دون غيره:
﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ (الطلاق: 3)
وأما نفوسهم الشريفة، فلم يبيعوها بأبخس الإيمان بدنيا غيرهم الخسيسة، بل ارتقوا بها في عالم الإيمان والمعاني السَّنية ابتغاء رضوان الله وجناته الأبدية:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ (البقرة: 207)
لقد فقهوا قول ربّهم:
﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ (الزمر: 15)
وإنّ عقولهم لمستنيرة بحقٍّ بنور الله، حيث استعملوها فيما فيه عزّ الدنيا والآخرة بما يرضي الله، وإنهم لأعلم بالمقاصد ومآلات أمورهم لو أعطوا الدنية في دينهم، ولا يفتي قاعدٌ لمجاهد...
وقد أحسن الفيلسوف الكبير السيد طه عبد الرحمن وصف عقل مقاومي غزة بقوله معلّقًا على "طوفان الأقصى":
"إنه عقل مؤيَّد من الله (...) وأنه هزم العقل الصهيوني."
أما أموالهم، فقد بذلوها في مدافعة أهل الباطل وما يقوم به أمرهم مما يقتضيه شرع الله، فإن نفدت، فليس لعيب فيهم، بل فيمن خذلهم من إخوانهم وبني جلدتهم ممّن سيذوق وبال فعله، وصَغار الذل والعار عاجلًا أو آجلًا. والله يُمهل ولا يُهمل.
وهذا نسلُهم عهدناه مباركًا، فكأني بهم أشبه الناس برسول الله ﷺ في قومه، لما قال عنه قائلهم العاص بن وائل:
"دعوه، فإنه رجل أبتر، لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره."
فقال تعالى:
﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ (الكوثر: 3)
فكان ما أراد الله، لا ما أراد أعداؤه. وأملنا في الله كبير أن يُبارك نسل أهل غزة، ويُريَنا منهم ما يشفي به صدورنا بأن ينشر بهم نوره في أرضه.
وكأني بهم أشبه الناس بأهل بيت رسول الله ﷺ، لما حُوصِروا دون غيرهم في شعب أبي طالب في بداية الإسلام، للنيل من دينهم وإضعافهم في نفوسهم وعقولهم وأموالهم وذرياتهم، فثبتوا على الحق، فجاءهم نصر الله رغم أنوف أعدائهم.
هذا حالهم في عالم المعنى والرّوح، أما في عالم التدافع الأرضي، فإنّ لهم أن يتمتّعوا بكامل حقوقهم ولا تُهضم، علاوة على أنّهم أصحاب الأرض أوّلًا وأخيرًا.
فليعلم العالمون أنهم مظلومون ويُبادون...
تأخير البيان عن وقت الحاجة حرام وخذلان
لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فأهل غزة في إبادة مقصودة منظّمة، تدعو جهارًا أهل العلم إلى نصرتهم، والدّفع عنهم، ونصح ولاة أمور المسلمين بما عليه فعله، وأن يتركوا الحسابات الفارغة التي كثيرًا ما تُجمَّل بعنوان "الحكمة" تجنّبًا لأقلّ أذًى في ذات الله!
فإنّهم يرون أناسًا من فضلاء الشعوب قاموا بفطرتهم ضدّ هذا الظّلم الغاشم، فأوذوا في أجسامهم وأموالهم ومناصبهم، فما ندموا وما وهنوا وما استكانوا.
إِلَّا يَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ...
يجب بعد كل هذا أن لا يتحدث في مقاصد الشريعة إلا من نصر أهل غزّة، ولم يألُ جهدًا في الدفع عنها، وإلّا فليستحضر أن أصوات أهلها الذين يتضوّرون جوعًا، ويموتون إبادةً وقهرًا، تخاطبه عبر أثير الحق:
"اصمت! فليس من حقك الحديث في مقاصد الشريعة، فإن فعلت، فإنك إذًا من الكاذبين الهالكين، لأنك لم تخشَ صاحب الشرع سبحانه، بل خشيت أعداءه."
﴿ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ (التوبة: 13)
قال عبيد بن الأبرص:
لا أعرِفَنَّكَ بعد الموتِ تَندُبُني
وفي حياتيَ ما زَوَّدْتَني زادي
حقيقٌ على طالب العلم أن يأخذ الدرس من أحداث غزة خصوصًا، وأن يُراجع نفسه، ويُجدّد نيّته، ويُوطّن نفسه على القيام بالقسط والشهادة لله، وأن لا يغترّ بالألقاب والإجازات، ولا حتى بمضامين العلوم، ولو استوعب منها ما استوعب، لأن الأمر أجلّ من ذلك. فإما أن يكون من أهل الحقّ والشّهادة بالحقّ، وإما أن يكون ممن ركنوا إلى الدنيا بالدين فصاروا من الخاسرين.
اللهم إنا نعوذ بك من الحَور بعد الكَور، ومن السّلب بعد العطاء.
اللهم انصر جندك، وأعلِ كلمتك، وفرّج عن أهل غزة، وانصرهم، واجعلهم أئمة، واجعلهم الوارثين.
- الكلمات الدلالية
- غزة
الشيخ عبد الجليل حمداوي